الجمعة، 3 أبريل 2015

هاني تادرس يكتب: قصة من وحي شتاء كندا


     تلك الليله الباردة أخذت أنقل بصري بين مؤشر الوقود الذى بدأ فى التناقص منذ عشرات الأميال ومقياس حرارة الجو التى تجاوزت درجة التجمد الى الأدني بعدة درجات, حاولت زيادة سرعة السياره لأصل بسرعه وأتمكن من ملئ خزان الوقود من محطة الوقود القريبة من منزلى دون أن اضطر لترك الطريق للبحث عن محطه قريبه فقد تمكن منى الاجهاد بحيث لم يبقى لى الا المجهود الكافى للقياده حتى المنزل تنبهت لعداد السرعه متحاشيا زيادتها بكثير عن المعدل المسموح به فاخر ما اتمناه فى تلك الليله البارده هو خسارة بضع مئات من الدولارات لمخالفة السرعه على يد شرطى متخفى يقود سياره عادية يكسب قوت يومه من الايقاع بمتجاوزى السرعه ويظن أنه يؤدى خدمه جليلة للانسانية. نظرت الي الطريق الفرعي الموحش المؤدي للبلده الصغيره التى أقطنها بعيدا عن ضوضاء المدن الكبرى, ورحت أتأمل أكوام الثلوج البيضاء الرابضه على جانبى الطريق تغطى كل شيئ وتعطيه صفة الوحشه, بينما أتابع جثث الأشجار بعد ان فقدت أوراقها تمر مسرعه بجانبي كشواهد القبور واستمع الى سيمفونية تعزفها قطع البراد المتساقطه على السيارة وتعطى المشهد الموسيقي التصويريه المناسبه له وتكتمل اللوحة بقليل من المؤثرات البصريه المتمثله فى ومضات البرق التى تنير السماء من وقت لاخر بينما اتابع كل هذا سرحت استعرض شريط حياتي الفتره الماضيه وماذا أتي بى الى تلك البلاد البعيده الباردة التى لا أشبهها ولا تشبهنى وماذا فعلت وماذا لم أفعل خلال العامين الماضيين, صوت فيروز يصدح بأغنيه يا طير يا طاير أعدت تشغيل المقطع الذى يقول يا طير واخد معك لون الشجر ..ما عاد فيه إلا النطرة والضجر ... بنطر بعين الشمس ع برد الحجر... عدة مرات قبل أن أفيق من تأملاتي على صوت صافرة تحذر من قرب فروغ خزان الوقد تماما.

   كانت الساعه قد تجاوزت منتصف الليل بقليل, تابعت السير متجاهلا تلك التحذيرات وقررت أن أختبر حظى حتى النهايه, لم يخنى الحظ هذه المره كما فعلها معى كثيرا سابقا ووصلت الى تلك المحطه المنشوده القريبه من بيتى وأنا أكاد أفرغ اخر بضع قطرات فى قاع الخزان وبالفعل وقفت أمام مضخة الوقود ملتمسا أكسير الحياه الذي سيبعث الحياه فى السياره لتكمل المسير حتى باب المنزل, نزلت من السياره متثاقلا بقميص قطني خفيف، عارى اليدين حاسر الرأس ضاربا عرض الحائط بكل تعليمات الوقايه من قسوة الجو فعندما تنتقل البرودة للداخل لاتعد تشعر بالبرودة الخارجية كانت المحطه شبة خالية الا من سيارة أخرى أخذ قائدها يملؤها بالوقود بينما يتراقص من البرد وينفث بخار الماء من فمه كتنين وليد يجرب قدراته, فرغت من ملئ الخزان غير عابئ بالهواء المشبع بالثلج الذى أخذ يضربنى من كل اتجاه فقد كنت مازلت سارح فى خيالاتى, مشيت مسرعا نحو مبنى محطة الوقود لأدفع قيمة الوقود فطالما لم استسغ طريقة الدفع الالي للمضخه بكارد الائتمان فأنا مازلت أؤمن بأهمية التعامل مع العنصر البشرى وأتحاشي التعامل مع الماكينات كلما استطعت.

   ما أنا دلفت الي داخل المبنى الزجاجي حتي طالعنى وجهها الاسمر المرهق وعيناها الزائغتين من خلف الطاوله العاليه امرأه ثلاثينيه على ما يبدو من أصول لاتينيه على وجهها مسحة من جمال قديم, ردت تحيتي بلكنه أنجليزيه تشي بمدى قرب مجيئها الى تلك البلاد, سألتني بود كام الساعه الان وكيف حال الجو بالخارج؟ شعرت برغبتها فى تبادل حديث عابر يؤنس وحدتها فى هذة الليله القاسيه. أجبتها على اسئلتها بشيئ من المودة وصوت يبعث على الطمانينة، فانطلقت تحكى عن موعد وردية عملها التى تنتهى فى الواحده صباحا لتبدأ ورديتها التاليه فى الثامنه من نفس الصباح رغم عملها ورديتين متواصلتين اليوم وقالت أنها ربما لن تذهب لبيتها وانما ستقضي ليلتها جالسة على كرسي فى استراحة الغداء بالداخل تجنبا للقياده الخطرة وخوفا من ان لا تستطيع المجئ فى الصباح فى موعدها وتخسر وظيفتها التى وجدتها بعد عناء.. أخذت استمع باهتمام حقيقى و لم أعلق بكلمه حيث بدى لى أنها لا تلتمس رد بقدر ما تبحث فقط عن مستمع لشكواها.. استرسلت تشكو من قسوة الحياه وضياع الحلم بحياه رغده فى تلك البلاد والذى طالما سعت وراءه هى وعائلتها لسنوات وظنت انها امتلكت الدينا حين تحقق واتت الى هنا منذ اربع سنوات هربا من جحيم الأزمة الاقتصادية التى تعصف ببلدها هذه السنوات كانت هى الأصعب فى عمرها كله وانها كانت تعمل طبيبه متخصصه فى بلدها ولم تستطع معادلة شهاتها وايجاد فرصة عمل هنا... أومأت برأسي متفهما حديثها الذى طال نسبيا ولم اجد فى نفسي الرغبة فى ان أضيف حرفا على ما قالت، فأعتذرت بشده وشكرتنى على حسن استماعي بعد ان أفرغت ما فى محفظتي من نقود ثمنا للوقود. عدت لمنزلى أردد رباعية عمنا صلاح جاهين: لا تجبر الإنسان ولا تخيّره يكفيه ما فيه من عقل بيحيّره اللي النهارده بيطلبه ويشتهيه هو اللي بكره ح يشتهي يغيّره عجبي !!

هانى تادرس
 كندا فى الشتاء

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق